استقلال ألبانيا (صفحات تاريخية مجهولة)
لونك المفضل
الألوان

منتدى شملت والنيه اربد



كلمات دليلية:

استقلال ألبانيا (صفحات تاريخية مجهولة) Emptyاستقلال ألبانيا (صفحات تاريخية مجهولة)

ahlam
ahlam
vip
vip
 نُشر في الثلاثاء 14 ديسمبر 2010 - 3:51

مرت بنا منذ أيام قليلة ذكري استقلال دولة ألبانيا (28/11/1912) ، تلك الدولة الأوربية ذات الغالبية المسلمة التي يجهل الكثير منا تاريخها رغم أن لها تاريخا وحضارة عريقتان وأحاول في هذا البحث أن أميط اللثام عن بعض من هذا التاريخ .
خضعت ألبانيا للحكم العثماني نحو خمسة قرون ، منذ بدايات القرن الخامس عشر الميلادي، وحتى بدايات القرن العشرين، شهدت خلالها ـ باستثناء فترات قليلة ومتقطعة ـ ما لم تشهده علي مر تاريخها من استقرار سياسي واجتماعي، ورخاء اقتصادي، ونهضة علمية وثقافية، وتطور عمراني شمل القرى والمدن، وهذا ما اعترف به أحد رموز الألبانيين السياسيين هو "باشكو واصا" سنة 1830م ، وهو الباني كاثوليكي، حيث قال واصفًا الحالة في ألبانيا: "إنها كانت لذلك العهد في زهوة النماء والنجاح، وافرة المحاصيل وموارد الدخل والثروة ... وكانت بعدد رجالها وعساكرها تفاخر وتباهي أعظم الدول الأوربية .
لقد تعايش الألبان سريعًا مع نظام الحكم العثماني، وامتزجوا به، واعتنق غالبيتهم الإسلام، وحازوا رضى وإعجاب السلاطين العثمانيين، فأسندوا إليهم أرقى المناصب الإدارية والعسكرية في جميع أنحاء الدولة وفي مختلف أدوار تاريخها.
ويستدل على ذلك من وصف السلطان "عبد الحميد الثاني" لهم قائلا:
"إن السواد الأعظم من الأرناؤوط إخوان لنا مسلمون، نسند ظهورنا إليهم، فهم جنودنا المخلصون، برز منهم رجال دولة وقادة أفذاذ، أليس الذين من حولي الآن هم من الأرناؤوط ؟"،
ولكن مع منتصف القرن التاسع عشر، وبسبب التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها أوربا، أثر ذلك على الوجود العثماني في ألبانيا على النحو التالي:
أولا: الضعف التدريجي الواضح للدولة العثمانية، والذي أدي إلي تكالب القوى العظمى الأوربية بهدف القضاء عليها وتوزيع ممتلكاتها أسلابًا فيما بينهم.
وتواكب ذلك مع انتشار الفكر القومي في أوربا، وتنامي الروح القومية لدى بعض شعوب البلقان، وتطلع هذه الشعوب إلى الانفصال عن الدولة العثمانية .
وكانت اليونان أول من سلك هذا الدرب ونجحت في الانفصال وإعلان استقلالها عن الدولة العثمانية سنة 1831م، ثم تبعتها باقي شعوب البلقان تطالب باستقلالها كبلغاريا ورومانيا والصرب والجبل الأسود، وقامت ثورات في تلك البلاد مطالبة بالاستقلال، ومع إنها لم تكن ثورات منظمة، وسرعان ما كان يقضى عليها، إلا أنها استمرت بدعم وتحريض من الدول الأوربية العظمى، التي كان لها دورٌ فعالٌ ضد الدولة العثمانية، خاصة في ولاياتها البلقانية.
ولم يكن هذا الدور طارئًا أو مستغربًا على تلك الدول التي نظرت إلى الدولة العثمانية على أنها خطر جسيم يهدد أوربا، وبات هدف الساسة الأوربيين هو إزالة الوجود العثماني الإسلامي من أوربا.
وكان من الطبيعي أن يتأثر الألبان بتلك الحركات القومية، خاصة بعد ما شعروا بمدى ضعف الدولة العثمانية، وأن سقوطها قاب قوسين، وأن القوى الأوربية العظمى تدعم القوميات الجديدة، مما زاد من قوتها وتناميها.
وخشية من الذوبان في القوميات المجاورة، والوقوع فريسة بينهم في ظل النزعة العدوانية لهم ومحاولاتهم القديمة الاستيلاء على الأراضي الألبانية، سعى الألبانيون إلى تنمية الشعور القومي، وهب قادتهم يستثيرون هذا الشعور في نفوس قومهم، وكانوا يقولون: إن سفينة السلطنة على وشك الغرق، وعلينا أن نتخذ ما يجب اتخاذه من التدابير كي لا نغرق معها، ما دام ليس في استطاعتنا أن ندفع عنها الغرق.
لكن هذه الرؤية الألبانية لم تمح من أذهان الدول البلقانية والقوي العظمي فكرة أن هؤلاء الألبان عثمانيون مسلمون دعموا الدولة العثمانية في توسعاتها وكانوا عماد جيشها ومؤسساتها العسكرية والإدارية .
وفي سنة 1977 اندلعت الحرب الروسية التركية ووقفت الدول البلقانية بجوار روسيا تدعمها في تلك الحرب ، وهاجمت القوات الصربية مناطق البانية وأجبرت عشرات السكان علي الهجرة من قراهم ومدنهم نحو الجنوب إلي كوسوفا ، كذلك قامت قوات يونانية ورومانية وقوات من الجبل الأسود باحتلال مناطق البانية شاسعة .
وانتهت الحرب بهزيمة الدولة العثمانية ، وأبرمت معاهدة "سان استيفانو" 1878م ، وبمقتضاها انتزعت مناطق كبيرة من الدولة العثمانية كان من ضمنها المناطق التي استولت عليها الدول البلقانية من الأراضي الألبانية .
لم يستسلم الألبان لقرارات هذه المعاهدة وقاوموا الوجود الأجنبي علي أراضيهم وتشكلت رابطة سميت " الرابطة القومية الألبانية " بزعامة عبديل فراشيري وأرسلوا عشرات الاحتجاجات إلي القوي العظمي ، في تلك الأثناء انعقد مؤتمر برلين الدولي لمناقشة الأوضاع الدولية وتعديل موازين القوي بعد انتصار روسيا في حربها وتنامي قوتها ، وكذلك لتقسيم أملاك الدولة العثمانية الآيلة للسقوط والقضاء علي هذا الكيان الإسلامي الكبير في أوربا وهو ألبانيا بتقسيمه علي الدول المجاورة.
ومثلت كل قوميات العالم في هذا المؤتمر وعندما ذهب الألبان يعرضون مطالبهم ، ويطالبون بحقوقهم كغيرهم من شعوب العالم تصدي لهم المستشار الألماني بسمارك رئيس المؤتمر قائلا : "لا يوجد امة البانية أنتم عثمانيون ".
وانتهي المؤتمر بإقرار استيلاء الدول البلقانية ( صربيا اليونان الجبل الأسود بلغاريا ) علي مناطق ألبانية شاسعة.
وبصدور قرارات مؤتمر برلين تأججت نار السخط بين الألبان ضد الدول الأوربية الكبرى ، التي لم تنظر إلى مطالبهم المشروعة والعادلة، ولذلك قرروا رفض تلك القرارات والدفاع عن أراضيهم بالقوة العسكرية.
وأصدر قادة الرابطة الألبانية أوامرهم للجان في المدن المجاورة لليونان والجبل الأسود، بالاستعداد التام، وأن يقدم كل بيت من بيوت الألبان محاربًا، وأن يساهم أغنياؤهم بالأموال لتمويل القوات الألبانية المزمع تشكيلها، وكانت استجابة الشعب الألباني سريعة؛ إذ شهدت المدن والقرى الألبانية تدفق المتطوعين من الشباب، والأموال والمؤن والذخيرة، وفي خلال أسبوعين كونت الرابطة قوة عسكرية بلغت نحو عشرة آلاف جندي مدعمين بالسلاح والذخيرة.
كذلك رفض السلطان عبد الحميد قرارات مؤتمر برلين، وأخذ يدعم الرابطة الألبانية سرًّا بالمال والسلاح وأعلن قائلا: " إنه على استعداد أن يخسر عرشه على أن يفقد مقدار شبر من ألبانيا، ولكن الدول العظمى مارست عليه ضغطا وتهديدًا إن لم يستجب لقراراتها، فاضطر إلى إصدار الأوامر إلى القوات العثمانية بالانسحاب من بعض المناطق الألبانية مثل "بلافا" و"جوستينا" تمهيدًا لضمها للجبل الأسود، وكذلك منطقة "أيبر" تمهيدًا لضمها لليونان.
وإزاء ضعف الدولة العثمانية وتهديدات الدول الأوربية للسلطان بأنه إذا لم يستجب ويسلم المناطق الألبانية - المتفق عليها في مؤتمر برلين - ستقوم تلك الدول باحتلال استانبول نفسها ، ورضخ السلطان لذلك مبررا ذلك بأن تلك المناطق ذات أغلبية مسيحية، ولكن الألبان رفضوا واشتبكوا مع القوات التركية التي جاءت لتنفيذ القرار وانتهي الأمر بالقضاء علي الرابطة الألبانية.
ورغم القضاء على قيادات الرابطة القومية الألبانية، إلا أن نيل الحكم الذاتي، وطرد قوات الاحتلال من الأراضي الألبانية، كان هدف جميع الألبان، فتشكلت مجموعات مقاومة صغيرة، يتراوح عدد أفرادها بين خمسة وخمسة عشر فردًا، ونشطوا جميعهم في قتال المحتلين، وحققوا نجاحات كبيرة في ذلك، في حدود ما توفر لديهم من إمكانيات.
ومما زاد من غضب الألبان وإصرارهم علي طرد الاحتلال تلك الإجراءات القمعية التي مارستها السلطات الصربية والبلغارية والجبل الأسود ضد المسلمين في المناطق التي احتلوها عامي 1877، 1878م، وكان منها طرد جميع المسلمين من وادي مورافيا، حيث صارت مئات القرى الألبانية خالية من سكانها، ويروى مدير مدرسة في "ليسوفاك" في مذكراته وهو صربي فيقول: "طرد المسلمون في ديسمبر سنة 1877م في وقت اشتدت فيه حدة البرد، وانتشر الصقيع، فكنا نرى على امتداد أميال جثث الناس مبعثرة، منهم الأطفال والنساء والشيوخ، وقد تجمدت حتى الموت".
ويقدر البعض عدد من ماتوا جراء هذه الأفعال من قبل المحتلين بنحو (115) ألف نسمة، وبلغ عدد اللاجئين الذين تركوا بيوتهم بين (60) إلى (70) ألفًا، وبيعت ممتلكاتهم بما يساوي 1% من قيمتها الحقيقية.
وفي شكوى كتبها لاجئون مسلمون من منطقة "ليسوفاك" سنة 1879 يقولون: "إن ديارهم هدمت، وأن موادها من الأخشاب والطوب بيعت أنقاضًا، حتى إذا تمكنا من العودة فيما بعد لا نجد مكانًا يأوي أسرنا".
ولم تكن هذه الأعمال عشوائية، وإنما كانت منظمة ولها خطط مرسومة، وتتابع من قبل السلطات الصربية، وصدرت الأوامر للضباط الصرب بالآتي:
"إن سياسة صربيا هي إخلاء الأراضي وتطهيرها من السكان المسلمين".
الألبان وجماعة الاتحاد والترقي:
ظهرت في الدولة العثمانية منذ العقد الأخير للقرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين عدة حركات وجمعيات، كان أكثر أعضائها ضباطًا في الجيش التركي، وكان أشهر هذه الجمعيات هي "الاتحاد والترقي" وهي جمعية كانت تدعو لتحديث الدولة، وإسقاط السلطان العثماني، وتوحيد الدولة على أساس القومية التركية أو ما يسمى بالطورانية، كما كانت تعرف بعدائها الشديد للإسلام والمسلمين، وكان أشهر أعضائها "مصطفى كمال " الذي لقب فيما بعد باسم " أتاتورك".
كانت جماعة الاتحاد والترقي تدرك أن السلطان محاط بعدد كبير من الألبان، لثقته الكبيرة بهم، فأوعز قادتها إلى قادة الألبان أنهم في حال سقوط السلطان عبد الحميد واعتلائهم الحكم،فإنهم سوف يمنحون الألبان الاستقلال، وسيكون لهم حرية التعليم بلغاتهم، وممارسة أنشطتهم السياسية وإنشاء المدارس والطرق والجسور، والمستشفيات، وإصلاح المؤسسات، وسيكون لهم ممثلون عن ولاياتهم الأربع في البرلمان التركي.
انساق كثير من الألبان في ألبانيا وفي استانبول خلف هذه التصريحات، وقرروا مساعدة جماعة الاتحاد والترقي ضد السلطان، واختير "إسماعيل كمال" ليكون نائبًا في البرلمان التركي عن "بيرات" و"أسعد باشا" عن "دوريس"، وتم إنشاء عدد من النوادي الأدبية، والمؤسسات الاجتماعية، وبعض المدارس في المدن والقرى، وظهرت كثير من الصحف والجرائد التي طبعت في سلانيك وكورتشا ومناستير ويانينا وأشقودرة، وشارك الضباط الألبان في المعسكرات الحربية باستانبول لدعم الانقلاب على السلطان، ونجحت مساعي جماعة الاتحاد والترقي وتحركاتهم في نهاية المطاف في إسقاط السلطان عبد الحميد، واعتلاء سدة الحكم بعد انقلاب سنة 1908م ، ثم عزل السلطان 1909م ، ولكن سرعان ما أدرك الألبان حقيقة هذه الجماعة ، وأنهم تعرضوا لخديعة كبرى من قبلهم، بعدما مارسوا سياسة القمع والقوة ضد شعوب البلقان خاصة ألبانيا، فأغلقوا المدارس، والصحف الألبانية، وطالبوا الألبان بتسليم أسلحتهم، وكذلك ألغيت فكرة اختيار نواب ألبان في البرلمان التركي، واستمر التجنيد الإجباري، وجمع الضرائب.
وكان أكثر الغاضبين والثائرين على هذا الانقلاب القائد الألباني "عيسى بولتيني" الذي خدم في بلاط السلطان عبد الحميد، واختلط به، وعرف سجاياه عن قرب، وعزمه الصادق على إصلاح الفساد الذي تراكم عبر السنين في مؤسسات الدولة.
أعلن الألبان التمرد على سياسة الاتحاديين، وندموا على موقفهم الذي أدى إلى عزل السلطان، فأرسلت إليهم الحكومة التركية فرقة من الجيش قوامها سبعة آلاف جندي مسلحين بالبنادق والمدافع بقيادة ضابط شركسي هو "صفوت باشا" المعروف بقسوته وعنفه، فدمر نحو 60 قلعة، وقام بحملة عنيفة لجمع الأسلحة من الأهالي، وكذلك التجنيد الإجباري، وجمع الضرائب.
اجتمع قادة الألبان في ربيع سنة 1912م وعلى رأسهم "حسن بريشتينا" و"عيسى بولتيني" و"رضا بك كريزيو" و"بيرام تسوري" وقرروا الثورة على حكم الاتحاديين والتخلص منه، وأعلنوا أنهم سيظلون مخلصين للسلطان العثماني.
وبدأت الثورة في 30 مايو سنة 1912م باستيلاء الثوار على عدد من مدن إقليم كوسوفا، وفي يوليو عمت الثورة جميع الأراضي الألبانية، وقادها في أشقودرة "ديدا جولولي" وفي كورتشا "ثمستوكلي جراميني" وفي فلورا "ألماز جفري" وفي إلبسان "عاكف بتشاكو" وفي تيرانا "عبدي توبتاني".
ونجح الثوار في السيطرة على مدينة تلو الأخرى، وتجمع لديهم ما يقرب من أربعين ألف مقاتل، وشعرت الحكومة التركية في استانبول أنها لن تستطيع القضاء على هذه الثورة العارمة، فأرسلت وفدًا للتفاوض معهم، ولكن المفاوضات فشلت.
أمام ذلك الوضع، وسيطرة الثوار على مدينة تلو الأخرى، وانشغال القوات التركية بحربها مع إيطاليا في ليبيا، وجزء منها في اليمن، ما كان من حكومة الاتحاديين إلا الموافقة على مطالب الألبان في 18 أغسطس 1912م فاعترفت بالحكم الذاتي لهم، وأن يكون التعليم في المدارس باللغة الألبانية، وجعلها اللغة الرسمية للبلاد، وبذلك نجح الألبان في تحقيق حلمهم بالحصول على الحكم الذاتي كغيرهم من شعوب البلقان بعد فترة كبيرة من الكفاح السلمي والمسلح.
بيد أنه كانت هناك قوى خارجية تترقب اللحظة الحاسمة للانقضاض على أملاك الدولة العثمانية الآيلة على السقوط ، وكان نجاح الثورة الألبانية في حد ذاته مؤشرًا على ضعفها الشديد.
وهذا الإنجاز الذي حققه الألبان بعدما سفكت من أجله الدماء الغزيرة، لم يرق لهذه القوى الخارجية خاصة صربيا والجبل الأسود واليونان الذين كانوا يخططون للاستيلاء على ولايات الألبان الأربع.
فبعد يومين فقط من قبول الحكومة التركية لمطالب الألبان، واعترافها بالحكم الذاتي لهم، كتب القنصل الصربي في أثينا "بوشكوفيتش" إلى حكومته يقول: "نظرًا لأن مصالح اليونان وصربيا والجبل الأسود وبلغاريا قد تضررت، فإن الحكومة اليونانية تقترح عملا مشتركا لكسر شوكة الألبان ".
وسرعان ما تشكل حلف بلقاني أعلن الحرب علي تركيا في أكتوبر 1912 وهو ما عرف بحرب البلقان الأولي ، وكانت ألبانيا أهم مسارحها، وقد حرصت كل دولة في ذلك الحلف أن يكون لها النصيب الأكبر في الاستيلاء على الأراضي الألبانية، مستخدمة كافة الوسائل التي تمكنها من ذلك، واستباحوا كل شيء في طريقهم، فقتلوا وحرقوا ودمروا جميع المناطق الألبانية التي دخلوها.
وقد سبق ذلك الاجتياح قيام هذه الدول بحملات دعائية لتهيئة الرأي الداخلي والخارجي لأعمالهم الوحشية، فالحكومة اليونانية كانت تريد بأي شكل إثبات أحقيتها في الجنوب الألباني، مع ضعف أدلتهم على ذلك، وفي ذلك الإطار دفعت مبالغ كبيرة للصحف والكتاب الأوربيين لإقناع الرأي الدولي بمزاعمهم الباطلة .
- طبيعة الحرب البلقانية:
الحقيقة أن ما جرى من أحداث في هذه الحرب يجعل من الضروري البحث عن طبيعتها، وأهدافها الحقيقية، وهل كانت بالفعل لتحرير الإخوة المسيحيين ـ على حد زعم الدول البلقانية ـ من نير الحكم التركي، وهل كان لهذا الهدف علاقة بما جرى على أرض الواقع من دمار وسفك واستباحة كل شيء، واحتلال للأراضي الألبانية ذات الغالبية المسلمة.
وقد تجلت في هذه الحرب روح الحقد والكراهية ضد المسلمين من خلال المنشورات التي صدرت عن ملوك ورؤساء الدول البلقانية، ونعتوا فيها الحرب بـ "الصليبية" ومصارعة الصليب للهلال، وكان أول من صرح بذلك "فرديناند" ملك بلغاريا الذي قال: "ستكون حربًا للصليب ضد الهلال"، كذلك أعلن الأمير الصربي "ميلان" في جيشه قائلا: "سنطهر الأرض من الذين لا يؤمنون بالصليب".
وفي الوقت الذي كان السلطان العثماني يدعو جنوده قبل الحرب بالرفق مع النساء والشيوخ والأطفال، كان قادة الصرب يحفزون جنودهم بقولهم: "كلما قتلتم ألبانيًّا أو تركيًّا وأنقصتم من وجودهم في هذه البلاد، يزداد مجدكم وفخركم لخدمة بلادكم".
بتلك الروح الصليبية، وتحت هذه الشعارات، خاض هؤلاء الحرب التي ارتكبوا فيها أبشع الجرائم، وظنوا أن جرائمهم هذه سترتكب دون أن يراها أو يسمع عنها أحد، ولكن وجد في ذلك الوقت شهود عيان لهذه الجرائم، استطاعوا نقل بعض ما حدث في المناطق الألبانية على يد القوات الصربية واليونانية والجبل الأسود، فقد نقل صحفي دنماركي في سكوبيا تمكن من التسلل إلى كوسوفا أن خمسة آلاف ألباني مدني تم قتلهم في بريشتينا وأرسل إلى صحيفته يقول: "إن الحملات الصليبية اتخذت شكل مذابح مروعة للمدنيين الألبان".
ومن المذابح البشعة أيضًا ما ذكره رئيس أساقفة كاثوليك سكوبيا في تقريره إلى" البابا" بتاريخ 24 يناير 1913م، قال: "لم يبق في مدينة "فرايزي" من المسلمين الألبان فوق سن الخامسة عشر سوى ثلاثة أشخاص، أما مدينة "جيلان" فقد ذبح جميع سكانها رغم استسلامها دون مقاومة ، وأصبحت" جياكوفا " خالية من السكان تمامًا، وبدت مدينة" بريزرن" كأنها مدينة الأموات، وعمت الفوضى وجرت أعمال السطو والاغتصاب على أوسع نطاق.
وفي عام 1914 شكلت مؤسسة كارينجي الأمريكية لجنة للتحقيق في كوسوفا، لم تتعرض لعدد القتلى المدنيين، ولكنها أكدت في تقاريرها أنه قد تبين لها بالأدلة وجود سياسة منظمة ومخططة يتم تنفيذها في كوسوفا، وأنها شاهدت منازل بل قرى بأكملها تحولت إلى رماد بسبب اشتعال الحرائق فيها على نطاق واسع، وأن أعدادًا هائلة من المدنيين تعرضوا لمجازر وحشية، وأن هذه الوسائل استخدمت ـ ولا تزال تستخدم ـ بواسطة القوات الصربية وقوات الجبل الأسود بهدف تغيير المعادلة السكانية في المناطق ذات الأكثرية الألبانية.
وإلى جانب هؤلاء كانت هناك الباحثة والمؤرخة البريطانية "إديث دورهام"، التي شاهدت بعينها كثير من الأحداث، كما التقت بكثير ممن تعرضوا للتعذيب على أيدي القوات البلقانية، وعندما كانت في الجبل الأسود حاولت أن تدخل كوسوفا لترى ما حدث خلال شهر أكتوبر سنة 1912م، ولكن السلطات الصربية منعتها، فلما سألت أحد الجنود عن سبب منعها قال ضاحكًا: لأننا لم نترك أنفًا في وجوه الألبان هناك وليس هذا منظرًا مناسبًا ليراه مسئول بريطاني.
تقول إديث دورهام: كانت هذه حروبًا صليبية جديدة ضد الإسلام والمسلمين من قبل الأرثوذكس ...، ثم تقول: "إذا اختصرت ما حدث إلى العشر فقط وقلته يكون شهادة بشعة لما يستطيع أن يفعل الإنسان ضد الإنسان".
ثم ذكرت أنها التقت بمجموعات من اللاجئين الألبان في تيرانا، الفارين من مناطقهم في "ديبرا" وقال لها أحدهم ويدعى "هوجا": إنه واحد من خمسة متبقين أحياء من 80 شخصًا من قبيلته في "ريتشان" بديبرا، وكان قد سمع أصوات النساء والأطفال والشيوخ وهم يُحرقون في البيوت التي جُمعوا فيها، ثم تقول : لا أحد يشك أنه يقول الحقيقة.
وتقول إديث أيضًا : إن سياسة التطهير العرقي والقتل والذبح وشق البطون بالخناجر ورفع رءوس الأطفال على الأسلحة، وجمع النساء والأطفال والشيوخ في بيوتهم وحرقهم كانت هي سياسة الصرب واليونان والجبل الأسود، وحينما تحدثت مع أحد جنود الجبل الأسود وقالت له: إنكم بما فعلتم من أفعال بشعة ستفقدون احترامكم أمام دول أوربا، فغضب الرجل وقال: هذه عاداتنا القديمة، ثم زاد: وكيف يمكن لجندي أن يظهر بطولته أمام قائده إن لم يرسل إليه طرفًا بشريًّا من جسم ألباني مثل الأذن أو الأنف أو الرأس، ثم يقول: نحن سنقطع أنوفهم وسنداوم على تلك الأفعال.
وفي جياكوفا كانت قوات الجبل الأسود تكره المسلمين على تغيير دينهم، فقد حاصرت أربعة فيالق عسكرية مدينة "جودسيا" وعرضوا على العلماء إما أن يتنصروا أو يقتلوا فقتل كثير منهم.
وكذلك كان الصرب يفعلون، فقد ذكر مراسل إحدى الصحف الإيطالية: أن الصرب أفرغوا كل جهدهم في قتل الألبانيين المسلمين، وخربوا المدن التي احتلوها، وذبحوا الكثير، بينهم عدد كبير من النساء، وأنهم ذبحوا في كوسوفا وحدها (25) ألف نسمة، وكان الصرب يحيطون المنازل، ويشعلون بها النيران، ثم يرمون كل من يخرج منها، ويعمدون إلى قتل الرجال أمام نسائهم وأولادهم.
وبلغت هذه الجرائم إلى الحد الذي جعل الصرب المقيمين في بلاد المجر يظهرون استياءهم منها، وقال أحد دبلوماسيهم: إنه لما سافر من "بريزرن" إلى "أيبك" لم يجد على جانبي الطريق إلا قرى محرقة، ومهدمة بمستوى الأرض، وكانت الدروب مزروعة بالمشانق، والجثث معلقة بها، ونشرت جرائد بلغراد هذه الجرائم.
وكذلك فعل اليونانيون في المناطق التي احتلوها مثل ذلك، وكثير من الأسر المسلمة في تلك المناطق تركوها وهاجروا وهم حفاة في الثلوج التي تسببت في موت الآلاف منهم، وقام اليونانيون أيضًا بحرق كثير من المناطق التي دخلوها بكل ما فيها.
انتهت حرب البلقان الأولى، التي جرت أحداثها على الأراضي الألبانية، وقد نتج عنها احتلال الدول البلقانية لكل الولايات الألبانية باستثناء منطقة محدودة حول مدينة فلورا، كما نتج عنها قتل الآلاف من الألبانيين وتشريدهم، بعدما ارتكبت ضدهم أبشع الجرائم.
ولذلك لا بد هنا من المقارنة بين معاملة العثمانيين لرعاياهم المسيحيين في أوربا طوال فترة حكمهم، التي امتدت خمسة قرون، وهي التي مارست سياسة التسامح، واحترام شرائع وعادات وأعراف هذه الشعوب، إذا استثنينا من ذلك تصرفات بعض الولاة في فترات قليلة.
حتى إن "إديث دورهام" نفسها قالت: أصبحت أشعر بالذنب، لأنني كنت يومًا أتمنى أن يخرج الأتراك من أوربا، لأنه لما كان الأتراك موجودين فالآمال لم تهدم، أما هؤلاء المحتلون النصارى فهم أسوأ وأبشع مائة مرة.
استقلال ألبانيا
اندلعت حرب البلقان الأولى، ورأى الألبان اجتياح الدول البلقانية لأراضيهم، في وقت لم يكن لديهم أية استعدادات ولا قدرات لوقف هذا الاجتياح القادم من كل مكان، والذي لم يكن في حسبانهم، وشعر قادة الألبان في الخارج بالخطر الشديد الذي ينذر بضياع وطنهم، فاتفقوا على ضرورة التحرك سريعًا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فدعا "إسماعيل كمال" لعقد اجتماع للألبان في رومانيا في نوفمبر سنة 1912م، واتفق المجتمعون على ضرورة العودة إلى وطنهم وإعلان استقلال ألبانيا.
وذهب إسماعيل كمال إلى النمسا والمجر والتقى بكبار قاداتها لمناقشة هذا الأمر، كما التقى بالسفير الإيطالي في فيينا، وأخذ من قادة تلك الدول وعودًا بالدعم في حال عودته، وإعلانه الاستقلال، فقرر العودة، ووصل إلى دوريس، وقد احتلت من قبل الصرب، فاتجه إلى مدينة "فلورا" وكانت الوحيدة التي لم تحتل بعد، وكان بصحبته بعض القادة مثل "لوئيج قوراقوجي" و"باندلي تسالي" و"ديمتر باراتي" و"كاظم كورتي" وغيرهم.
التقى إسماعيل كمال ورفاقه بنحو (83) من قادة الألبان في 26 نوفمبر، واتفقوا على عقد مؤتمر وطني كبير، يشارك فيه وفود من جميع المدن الألبانية، وأرسل إسماعيل كمال دعوات للقادة الألبان في هذه المدن للمشاركة، وكان بفلورا في ذلك الوقت عشرات الآلاف من اللاجئين الألبان الفارين من مناطقهم بسبب الاحتلال.
وعقد ذلك المؤتمر في 28 نوفمبر سنة 1912م، وأعلن إسماعيل كمال ورفاقه أمام الحاضرين استقلال ألبانيا على تلك المساحة البسيطة من ألبانيا التي لم تحتل بعد وهي مدينة فلورا وما حولها، ورفع العلم الألباني وسط دموع وتهليل وصيحات الجميع.
المصدر : موقع التاريخ (عند النقل ذكر المصدر)
remove_circleمواضيع مماثلة

اعلانات نصية